مقدمة
الحمد لله ذي القوة المتين، خلق الإنسان علمه البيان، وأقدره على التبيين، والصلاة والسلام على محمد صفوة النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، وعلى من اقتفى سبيلهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن التجربة النقدية العربية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وما حوليات زهير إلا دلائل بينة على ما كان الشعراء يأخذون به أنفسهم خشية أن تطالهم سهام النقد، فيغدو الشاعر شويعرا أو شعرورا، وكان يرضى أن يباع في سوق نخاسة الشعر، فيكون من مدرسة عبيد الشعر، على أن يتحرَّر من رِبقة القريض، فيغدُوَ حرا من العامة التي خبت فيها جذوة الشاعرية.
وقد امتلك النقاد الأوائل أرمدة من المصطلحات، كانت توظف باقتدار لتستجلي (الشعرية)، وتنزل أصحابها المنزلة اللائقة بكل واحدٍ، بلا وكس ولا شطط، ولعلَّ مصطلح "الفحولة"، هو أكثر تلك المصطلحات رواجا، إذ لا نكاد نمر بمصدر نقدي، أو كتاب له تعلق بالشعر من قريب أو بعيد إلا وجدنا لذاك المصطلح ذكرا فيه ذكرا.
ومن بين النُّقَّاد الأكثر احتفاء بمصطلح "الفحولة"شيخ العربية عبد الملك بن قُريب الأصمعي البصري، لسان العرب،وأحد مشاهير المشتغلين بالأدب، أخذ عن علماء العراق والشام والحجاز، وكان طوافا بالبادية كالحفَظة يكتب لفظ اللَّفَظَة، روى عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته. وكان محفوظه من الشعر مئات الألوف من الأبيات، الأراجيز منها ستة عشر ألف أرجوزة.
وفي بحثنا هذا؛ حاولنا الوقوف على حقيقة هذا المصطلح، والمعايير المطلوبة لبلوغه، ونقد تلك المعايير، ثم بيان الأثر الذي أثمره توظيف مصطلح (الفحولة) في الساحة النقدية العربية.
الفحولة بين اللغة والاصطلاح
الدلالة اللغوية:
* للفحولة في لغة العرب معنيان:
الأول: جمع فحل، فالتاء فيه زائدة، كما زيدت في السهولة (جمع سهل) والحمولة (جمع حمل)، ونحوهما ؛ قال سيبويه: ألحقوا الهاء فيهما لتأنيث الجمع([1]). يقول ابن فارس في مادة (فحل): «الفاء والحاء واللام أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على ذَكارةٍ وقُوَّة. من ذلك الفَحْلُ من كلِّ شيء وهو الذَّكَرُ الباسل... وفَحْلٌ فَحِيلٌ: كريمٌ. والعرب تسمِّي سهيلاً: الفحل، تشبيهاً له بفحل الإبل، لاعتزالِهِ النجوم، وذلك أنَّ الفحلَ إذا قَرَعَ الإبلَ اعتزَلَها»([2]).
الثاني: الفُحولة والفِحالة والفِحلة؛ وَصفٌ لكل ذكر قوي غالب متميز على غيره، كريم مُنجِبٍ عظيم نبيل.سواء كان المذكر حقيقيا كالفحيل من الإبل والكِباش والرجال، والفُحَّال من النخل، أو معنويا كسُهيلٍ النجم ([3]). فـ(الفحولة) على هذا مفهوم ذكوري محض، يقابل الأنوثة أو التأنث، وما يستتبع ذلك مما تفعله الأنثى من تزين أو تبرج أو ما شاكلهما ([4]).
وقد ورد في الشعر بهذا المعنى ؛ فها هو ذا الفِند الزِّمَّاني يقول - مُفتخِرًا-:
أَخُـــــــــــطُّ الأَرضَ خَطّا مِـثـ
|
لَ خَطِّ الجَمَلِ الفَحــــــــــــــــــلِ
| |
وَأَكفــــــــــــــي القَومَ في الكَبَّـ
|
ـةِ هَــــــــــــــــولَ الخَيلِ وَالرَّجلِ
|
وتقول عفيرة بنت عفان الجديسية - تذم رجال قومها -:
فَبُعداً وسُحقاً للّذي ليس دافــعـــاً
|
وَيَختال يَمشي بيننا مِشيَة الـــفــحـــلِ
|
الدلالة الاصطلاحية:
إذا كان فن الشِّعر مَنبَتُه الطَّبيعي هو بيت الشَّعر، فلا عَجَبَ أن تكون المصطلحات المتعلقة به ؛ في الشكل وفي المضمون، بل وحتى في النقد لصيقةً بتلك البيئة ؛ فالأسباب والأوتاد والحذذ والخرم والإقواء والتصريع وعمود الشعر وغيرها من المصطلحات العروضية وثيقة الصلة بالخيمة وما يحيط بها. وكذلك (الفحولة) هي من رَحِم تلك البيئة ؛ فإذا كان الفراهيدي قد نظر إلى (الخباء) في وضع مصطلح العروض، فإن الأصمعي قد وقف عند (الجمل) في تصور الشاعرية([5]).
ومُصطَلح (الفحولة)أكثر بما يُستعمل عند المُتقدِّمين بمعناه الأول ([6]). فالشاعر (الفحل)اجتمع فيه قوة الشاعرية، ونُبل العبارة، وغلبة الأقران، والتميُّز عليهم؛ فهو ذو خصوبة فكرية، يتعانى الألفاظ الجزلة القوية، ويتمتع بقدرة فذة على توليد المعاني المبتكرة والسبك المتقن.ولما سأل أبو حاتم السجستاني شيخه الأصمعي عن معنى الفحل؛ أجابه بأنه الذي «له مَزِيَّةٌ على غيره، كمزيّة الفحل على الحِقاق.قال: وبيت جرير يَدُلُّك على هذا:
وابنُ اللبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ لم يستَطِع صولَة البُزلِ القناعيسِ»([7]).
فقد وقع تعريف (الفحل) عند الأصمعي في هذا النص بمراعاة أمرين:
1- الفضل والشرف: فالشاعر (الفحل) له مزية على غيره من الشعراء تُماثل مزيّة الفحل الواحد من الجمال
على الجماعة من الحِقاق([8])، وهذه الميزة مرجعها إلى عامل السن والتَّميُّز الخِلقي؛ فـ(الفحل) أسَنُّ من الحِقَّة، فهو لذلك أنبل منه، والرغبة فيه أشد، ثم هو لفحولته يعدِل عددا من تلك الحقاق بل يمتاز عليها. وقد قال راشد بن سعد: «كان السلف يستحبون الفحولة ؛ لأنها أجرى وأجسر»([9])؛ فالفحل أكثر جريا وأقدم على المسالك الوعرة من غيره.
2- القهر والغلبة: فالشاعر (الفحل) هو البازل القِنعاس – الطويلُ العظيمُ الضخم السَّنِمَ -([10])الذي إذا جُمِع معه ابن اللَّبون ([11]) في حبلٍ لم يستطع مقاومته، وقهره لكبر سنه، وقوة بنيته، وشدته، ووَفرة خبرته وتجربته.
وإنما استدل الأصمعي ببيت جرير لأنه جاء في السياق نفسه - المفاضلة بين الشعراء -؛ ففي بيت سابق على هذا من القصيدة نفسها يقول جرير:
إِنّي إِذا الشــاعِـــــرُ المَغرورُ حَرَّبَني
|
جـــارٌ لِقَبرٍ عَلى مَــــــــرّانَ مَرموسِ
|
وفي تعريفه لـ(فحول الشعراء) يُشير ابن منظور إلى هذا المعنى بقوله: «هم الذين غلبوا بالهجاء من هاجاهم ؛ مثل جرير والفرزدق وأشباههما، وكذلك كل من عارض شاعرا فغلب عليه، مثل علقمة بن عَبدة وكان يُسمى فحلا ؛ لأنَّهُ عارض امرأ القيس في قصيدته التي يقول في أولها:
خَليلَيَّ مُرّا بي عَلى أُمِّ جُنـــــــــدَب
|
......................................
|
بقوله في قصيدته:
ذَهَبتَ مِنَ الهِجرانِ في غَيرِ مَذهَبٍ
|
..................................»([12])
|
فـ(الفحولة) من منظور الأصمعي وأضرابه من النُّقَّاد «تخضع لمنظور التمييز القائم على التفاوت الذي يتمخض عنه التطور الزماني البحت بين (الحقاق) و(الفحول) من الإبل، بيد أن التمييز قد يقوم على تفاوت يتمخَّض عنه الفارق النوعي، وذلك ما نستطيع أن نستَشِفَّه من قول أبي حاتم: «قلت: فعَديٌّ بن زيد، أفحل هو؟ قال: ليس بفحل ولا أنثى»([13])» ([14]) ؛ يعني: أنه شاعرٌ وسطٌ.
معايير الفحولة عند الأصمعي:
والمرء -في نظر الأصمعي- لا يصير: «في قريض الشعر فحلاً حتى يرويَ أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ. وأوَّل ذلك: أن يعلم العروض، ليكون ميزاناً له على قوله، والنحوَ، ليُصلح به لسانه، وليقيم به إعرابه، والنسب وأيام الناس، ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب، وذكرها بمدح أو ذم«»([15]). فمعايير الفحولة في نقد الأصمعي تتمثل في سبعة أمور: 1- رواية الأشعار. 2- سماع الأخبار. 3- معرفة المعاني. 4- دوران الألفاظ في مسامعه. 5- العلم بالعروض ليُقِيم الوزن. 6- العلم بالنحو ليأمن اللحن. 7- العلم بالأنساب وأيام العرب ليستعين بهما إذا مدح أو هجا.
وهذه الشروط في مجملها ترجع إلى مجالين:
المجال الأول: يتعلق بحقيقة الشعر، ويخدُم (الشاعرية)؛ ويشمل خمسة شروط: المحفوظ الشعري الواسع، الرصيد المفرداتي، المعرفة بالمعاني، إحكام الأصول العروضية والقواعد النحوية.
أما المجال الثاني: فيتعلق بما يخدُم أغراض الشعر ؛ ويشمل شرطين؛ أحدهما: تاريخي يتعلق بالأخبار وأيام العرب، والثاني:العلم بالنَّسَب ليستعين به على معرفة المناقب والمثالب. وهذا المجال يُحيلنا على ما تقدَّم عند ابن منظور من تعليق (الفحولة) بالغلبة في المهاجاة، وفي المعارضة.
والمقبوس السَّابق، المنقول عن الأصمعي،يرى إحسان عباس أنه: «يكتفي بذكر المجال الثقافي للشاعر، ولكنه لا يضيف إليه عنصرا آخر من موهبة أو غيرها»([16]). والحقيقة: أن الموهبة الشعرية لا تنفك عما اشترطه الأصمعي؛ فالذي يكلف نفسه حفظ أشعار العرب والإحاطة بأنسابها وأيامها وتتبع أخبارها، ثم هو مع ذلك خبير بصناعة الشعر وما يتطلبه من وافر اللَّفظ ومعرفةٍ بمواقع المعاني، فمثل هذا لا ينبعث إلى فعل ذلك إلا عن موهبة وطبيعة مستقرة.
وإذا ما أضفنا إلى ما تقدَّم نقله عن الأصمعي النماذجَ التي حكم عليها في رسالة (الفحولة)، تأتَّى لنا الوقوف على أهم الأسس التي كانت توجه الرجل في أحكامه تلك، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الذكورة: فالشاعر الفحل لابد أن يكون ذكرا، ولا حَظَّ للإناث في الفحولة، وهذا مُقتضى ما استقرَّ في الأذهان من ضَعف الشاعرية النِّسوية؛ فقد «قيل للفرزدق: إنَّ فلانة تقول الشعر، قال: إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتُذبح»، و«قال بشار بن بُرد: لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبيَّن الضعف فيه، فقيل له: أوَ كذلك الخنساء؟ فقال: تلك كان لها أربع خُصًى!»([17])؛ يعني: أنَّ فحولتها الشعرية كانت تعدل فحولة رجلين.
هذا الجواب من بشار يُحدث الفرق، ويُنشئ الاستثناء ؛ فالفحولة صفة للرجال، ولكن العرب عرفت الفحلات، وهن النساء السليطات ؛ أي: الفصيحات حديدات اللسان، اللواتي لهن قدرة على قهر الرجال بصخبهن. فلا عجب أن يكون من العربيات فحلات في القريض، ولا أدلَّ من اعتداد العرب بشاعرية النساء ممَّا أبدوه من اهتمام بنسائهم الشاعرات وروايتهم لأشعارهن، فـ«قد كان النابغة تضرب له قبةٌ حمراء من أَدَمٍ بسوق عُكاظٍ، وتأتيه الشعراء فتعرِض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصيرٍ،ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السُّلمية فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً، لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فقال حسان:والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك! فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي،إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذِي هـــو مُــدْرِكـي
|
وإنْ خِــلْتُ أنَّ المُنْتَأَى عَنــْـكَ واسِـعُ
|
ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك!، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خُصيَين!»([18]). فهذا النابغة الذبياني رأس الفحول يُقدِّمُها على فحلين - الأعشى وحسان بن ثابت-، بل جعلها أشعرَ الثقلين، فكيف لا تكون فحلة؟!
وها هو ذا الأصمعي يومًا يقول لتلميذه أبي حاتم السجزي: «أشَعَرتَ أن ليلى أشعرُ من الخنساء؟!»([19])؛ فهذا السؤال من الأصمعي بهذه الصيغة يحمل دلالات عِدَّة،فمع أن المقارنة جاءت بين شاعرتين، على طريق الأصمعي في المقارنة بين الشعراء والتي تتطلب أن يكونا من الفصيلة نفسها ([20])، إلا أن الإعجاب بشعر ليلى الأخيلية واضحٌ، بل قد أقرَّ بغلبة ليلى الأخيلية للنابغة الجعدي الذي عَدَّه فَحلاً ([21]).
فما تقرَّر من كون القصيدة مغامرة شعورية يصعب على المرأة خوضها، وأنَّ ثمة فَرْقًا في مستوى الإبداع وعمقه بين شعر الرجل وشعر المرأة ؛ ليس على إطلاقه، بل الصواب: أنَّ المرأة بما تتميز به من شعور مُرهف وعاطفة جياشة أقرب إلى الشعر من الرجل، وأنَّ لها من الشاعرية ما يتناسب وطبيعتها كمًّا ونوعًا، وإذا كانت التجربة تغذي الشعر، فحظ النساء من تلك التجارب لا يُنكَر ؛ والخنساء ما خلَّد ذكراها إلا مراثيها في أخويها الَّذَين قُتلا. فشعر النساء إذن لا يقل روعة عن شعر الرجال، ولهن في كل غرض سهم، فلهن في الغزل والفخر والهجاء، وإن كان الغالب عليهن الرثاء ([22])، والشَّاعرات العربيات لا يُحصَين كثرةً، وحسبُنا أنَّ ابن الطَّرَّاح جمع كتاباً في أخبار مَن يُستشهَد بشعرهن في العربية، فجاء فـي عـدة مجلدات([23]).
لكن تبقى الإشارة إلا أن الفحولة، مع كل ذلك، في منظور أرباب الاصطلاح من المتقدمين تستلزم الرجولة، ليس ضَنَّا بهذا الوصف أن تحمله امرأة، كيف والعرب لم تأنف أن يكون فيهم متنبئات كسجاح الكاهنة، فكيف يأنفون أن يكون فيهم فحلات في الشعر، وأين الشعر من النبوءة؟
إنَّ استلزام (الفحولة) الرجولة نابعٌ من أصل المصطلح، ثم مما شرحه الأصمعي بقوله: «طريق الشعر هو طريق طريق الفحول، مثل امرئ القيس وزهير والنابغة؛ من: صفات الديار والرَّحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفة الخمر والخيل والحروب، والافتخار؛ فإذا أدخلته في باب الخير لان»([24]). فهذه الأغراض الخمسة: الوصف، والغزل، والهجاء، والمديح، والفخر ؛ هي التي يطرقها الفحول من الرجال، فإذا أرادت المرأة طرقها أو طرقتها فعلا، فستكون مُتشبِّهة بالفُحول، لا فَحلة على الحقيقة، لأنَّ ما ذُكر هو من خصائص الرجال، فإقحام النساء أنفسهن فيه، هو انقلاب على الطبيعة. ولعله لذلك لا نظفر -في ما بأيدينا من المصادر- بمن وصف شاعرات بالفحولة، حتى أولئك الذين وَسَّعوا دائرتها من المتأخرين.
2- إدراك الجاهلية: الشعر العربي تَرِكةٌ جاهلية في أصوله وقواعده وأغراضه وكل ما يتَّصل به، فالجاهليون أعرف به من غيرهم، ويمتنِعُ -باديَ الرأي- أن يتفوَّق عليهم فيه من جاء بعدهم، فمن أجمعوا على تقديمه فهو المُقدَّم، حتى وإن كان غيره أولى بالتَّقديم منه في بعض الأحيان، وقد كان الأصمعي على وعي تام بهذه القضية ؛ فهو يُعلِّق على قصيدة النابغة الجعدي التي يقول فيها:
تِـلــكَ المَـكــارِمُ لا قَـعبانِ مِن لَبَنٍ
|
شِـيـبـا بِـمـــاءٍ فَـعـادا بَـعـدُ أَبــوالا
|
فيقول: «لو كانت هذه القصيدة للنابغة الأكبر بلغت كل مبلغ»([25]). يعني: لأنَّ النابغة الذبياني هو رأس الفحول، والحَكَم بين الشعراء، فلو كان قال هذه الأبيات لطارت شُهرتها في الآفاق، لشُهرة صاحبها، وتلقُّف الناس أشعاره.
ولذلك نجد ظاهرَ تصرُّف الأصمعي يُوحِي بأن (الفحولة) حِكرٌ على الجاهليين من الشعراء أمثال امرئ القيس والنابغة الذبياني،أو على من أدرك زمن الجاهلية أمثال كعب بن جعيل. ويشرح الأصمعي سبب ذلك بما يرويه عن شيخه الذي كان يُكثر الاستشهاد به ؛ فيقول: «جلست إلى عمرو بن العلاء ثماني حجج، فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حُسنٍ فقد سُبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم. ليس النمط واحدا ؛ ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نِطع»([26]). فأبو عمرو بن العلاء كان سيء الظن بمن ولُد في الإسلام من الشعراء ؛ لأنهم عاجزون عن التجديد، غير مُحكمين لصناعة الشعر، لا يثبُتون على قدم واحدة من الجودة، ولا يُؤمن عليهم اللَّحنُ.
وهذا الحكم كان باعتبار الأغلب، وإلا فإنَّ أبا عمرٍو بن العلاء نفسه يقول عن شعر جرير والفرزدق: «لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته»([27])، لكنه أحجم عما به هَمَّ، لأنه «كان لا يعد الشعر إلاَّ ما كان للمتقدمين»([28])؛ يقول ابن رشيق: «هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه ؛كالأصمعي، وابن الأعرابي أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب،ويقدم من قبلهم وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتيبه المولدون، ثم صارت لجاجة»([29]).
على الرغم من صرامة هذا المنهج اللغوي الذي كان يحكم النقد آنذاك، إلا أنَّالنص المُشار إليه آنفا عن الأصمعي نفسِه فيه التفات إلى الشاعرية بغض النظر عن الزمان الذي تفتَّقت فيه، فيُقرِّر أنَّ الشاعر لا يصير: «في قريض الشعر فحلاً حتى يرويَ أشعار العرب...»([30]). هذا التَّقرير يُفيد أنَّ الفحولة منزلةٌ متى توفَّرت شروطها في الشاعر، أمكن له أن يكون من أهلها، سواء أدرك الجاهلية أم لم يُدركها ؛ ولعلَّ هذا ما يُفسِّر قوله عن أعشى همدان: «هو من الفحول، وهو إسلامي كثير الشعر»([31]). فلم يكتف بإصدار الحكم، وإنما شفعه بالتنبيه على أنه -مع إسلاميته- كثير الشعر؛ فكأنَّ هذه الكثرة هي التي شفعت للأعشى عنده، فأثبت فحولته.
لكن لماذا تحفَّظ الأصمعي عن إطلاق هذا الوصف على عامَّة الإسلاميين من الشعراء، وفيهم من استجمع الشرائط المشار إليها آنِفًا، لعلَّ ذلك راجع - بالأساس - إلى أمرين:
الأول: ما جرى عليه شيوخ الأصمعي، وفي مُقدِّمَتهم أبو عمرو بن العلاء من قَصر الفحولة على النموذج الجاهلي، فقد كان ذلك تقليدا سائدا، يعسُر الخروج عليه. فقد قال له أبو حاتِم السجستاني: «سمعتك تفضل جريرا على الفرزدق غير مرة، فما تقول فيهما وفي الأخطل؟ فأطرق ساعة، ثم أنشد بيتا من قصيدته:
لَعَمري لَقَد أَسرَيتُ لا لَيلَ عاجزِ
|
بِساهِمَـــــةِ الخَدّيـــن طــاويَةِ القُربِ
|
فأنشد أبياتًا زُهاء العشرة، ثم قال: من قال لك إن في الدنيا أحدا قال مثلها قبله ولا بعده، فلا تصدقه. ثم قال: أبو عمرو بن العلاء كان يفضله، سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لو أدرك الأخطل من الجاهلية يوما واحدا، ما قدمت عليه جاهليا ولا إسلاميا. ثم قال الأصمعي: أنشدت أبا عمرو بن العلاء شِعرًا ؛ فقال: ما يطيق هذا من الإسلاميين أحدٌ، ولا الأخطل»([32]). واضحٌ من إطراق الأصمعي حينما سُئِل عن الأخطل، وإعجابه الشديد بما أنشده من شعره، ثم ما نقله عن شيخه أبي عمرو بن العلاء جلالة الأخطل في نفسه ونفس شيخه، وأنه لم يزحزح الأخطل عن صدارة قائمة الفحول إلا(إسلاميته)، لكنَّ النقل الأخير عن أبي عمرو بن العلاء كأنه هدم ذلك كله؛ فالإسلاميون مجموعون والأخطل منهم لا يطيقون الإتيان بمثل ذاك الشعر الذي هو لبعض الجاهليين، كما هو واضحٌ.
ومع ذلك، فنظفر بنقل آخر عن أبي عمرو بن العلاء من طريق تلميذه أبي عبيدة يُدلي فيه بحكمه في الثالوث الأموي -جرير والفرزدق والأخطل-([33])،قال أبو عبيدة: «وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كان الفرزدق بن غالب يشبه بزهير في رصانة شعره وشدة أَسرِه، وكان الأخطل يشبه بالنابغة الذبياني، وكان جرير يشبه بالأعشى. قال أبو عبيدة: أولئك الثلاثة شعراء الجاهلية وهؤلاء شعراء الإسلام، فشبهت اثنين باثنين من الأولين، وتركت واحداً واخترت واحداً؟! يعنى: تركَه امرأ القيس، واجتلابه للأعشى،وذلك أنه شبه الفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة وترك امرأ القيس، واجتلب الأعشى فشبه جريراً به.قال أبو عمرو: وكان جرير أشبه بالأعشى منه بامرئ القيس، ومن شبَّه فحول الإسلام بفحول الجاهلية شَبَّه جريراً بالأعشى.قال: وكان ذاك عند جرير؟قال: نعم، كانا بَازِيَين يَصيدان ما بين العندليب إلى الكُرَكِى!»([34]). فهذا اعتراف من أبي عمرو بن العلاء -شيخ الأصمعي- بأنَّ في الإسلام فُحولاً، كما أنَّ في الجاهلية فحولا، لكن قُصارى أمر أولئك الفحول الإسلاميين أن يكونوا مُشابهين للفحول الجاهليين.
ولعلَّ الظروف المُحيطة بالقوم في تلك الفترة دفعتهم إلى تبني ذاك الموقف الصارم، حتى تبقى للموروث العربي من الشعر هيبته ومكانته، ويُحتَفَظ به أنموذجًا يُنسَج على منواله،ومثلا يُحتذى به، ولا يُمكن تجاوزه أو مجاراته. هذا الموقف اتخذه أولئك النقاد نَقَلَة العربية ورُواتها وأعلم الناس بها، ربما ردا على الشعوبيين الذين كانوا يحتقرون الجنس العربي ويَروَنه عَرِيًّا عن كل فضيلة، ولعل ما يُؤكِّد هذا الزَّعم أولئك المحدَثون الذين راموا الخروج عن ذاك العمود الشعري، فقد كان أغلبهم من غير العرب.
والثاني: الصعوبة البالغة في تحقق الإسلاميين بتلك الشروط الصارمة التي ألحقت الصفوة من شعراء الجاهلية بمرتبة الفحولة الشعرية؛ فبالإضافة إلى بُعد العهد بالجاهلية وتَنسُّخ الكثير من سُنَنها، فإن ما وقع في الإسلام من وقائع وأحداث وغزوات وفتوح قد غطى على أيام العرب التي كانت حروبا ذات طابع محلي، إضافة إلى تخلخل التركيبة البشرية للمجتمع العربي، الذي يدخل فيه الكثير من العجم، وأدخلوا معهم لغاتهم وعوائدهم، ولم يعُد من السهل التعرف على الأنساب وضبطها لتفرق أهلها في البلاد.
لكن مع ذلك، فقد وُجد في هذا الجيل فحول،منهم مَن تقدَّم ذكرهم، وآخرون غيرهم «فيهم مَن نحلَ القدماء شعرَه -كحمّاد الراوية وخلَف الأحمر وابن دأْب وأضرابِهم - فاندمج في أثناء شعرهم، وغلب في أضعافه، وصعُب على أهل العناية إفرادُه وتعسّر، مع شدة الصعوبة حتى تكلّف فلْي الدواوين واستقراءَ القصائد فنُفِي منها ما لعلّه أمتن وأفخم، وأجمع لوجوه الجوْدة وأسباب الاختيار مما أثبت وقُبِل. وهؤلاء مُحدثون حضريّون، وفي العصر الذي فسد فيه اللسان، واختلطت اللغة وحُظِر الاحتجاجُ بالشعر،وانقضى مَنْ جعله الرواة ساقة الشعراء»([35]).
ولذلك يرى الجُرجاني أنه: «لو أُنصف أصحابُنا هؤلاء([36]) لوُجِد يسيرُهم أحقّ بالاستكثار وصغيرهم أولى بالإكبار؛ لأنَّ أحدهم يقفُ محصوراً بين لفظ قد ضُيِّق مجاله، وحُذِف أكثره، وقلّ عدده، وحُظِر مُعظمه.ومعانٍ قد أُخذ عَفوُها، وسُبِق إلى جيّدها؛ فأفكاره تنبثّ في كل وجه، وخواطره تستفتِح كل باب؛ فإن وافق بعضَ ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرفٍ، قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان. ولعل ذلك البيت لم يقرَع قطّ سمعه، ولا مرّ بخلَده؛ كأنَّ التَّوارُد عندهم ممتنِعٌ، واتفاقَ الهواجس غيرُ ممكن! وإن افترع معنى بكْراً، أو افتتح طريقاً مُبهماً لم يرض منه إلا بأعذب لفظ وأقربه من القلب، وألذِّه في السمع؛ فإن دعاه حبُّ الإغراب وشهوة التنوّق إلى تزيين شعره وتحسين كلامه، فوشّحه بشيء من البديع، وحلاّه ببعض الاستعارة، قيل: هذا ظاهرُ التكلف، بيّن التعسف، ناشف الماء، قليل الرونق. وإن قال ما سمحتْ به النفس ورضي به الهاجس، قيل: لفظ فارغ وكلام غسيل؛ فإحسانه يُتأوّل، وعيوبه تُتمحّل،وزلته تتضاعف»([37]).
3- بدوية اللغة: لغة الشاعر الفحل لابد أن تكون فيها حِدَّة نَجدٍ، نابتة في سُرَّة البادية، وفي مَعدِن الفَصاحة؛ وقال الأصمعي: «كانت الرُّواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لمُخالفتها مذاهب الشعراء، وكان أبو داود على خيل المنذر بن ماء السماء فأكثر وصفه للخيل» ([38])، وفي رواية: «لأن ألفاظهما ليست بنجدية» ([39])، وهذا المعنى إنما استقاه الأصمعي من شيخه أبي عمرو بن العلاء؛ فقد روى أبو عبيدة عنه:«كان عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيلٍ في النجوم، يُعارضها ولا يجري مجارِيَها، والعرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجديةٍ، وكان نصرانياً من عِباد الحيرة، قد قرأ الكتب»([40]).فهو كان يسكن الحيرة ومراكز الريف،فلانَ لسانه،وسهُل منطقه([41])، وأمَّا أبو دؤاد الإيادي، فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر. فهؤلاء لما سكنوا الحاضرة، أعرضت العرب عن أشعارهم، لأنهم اتَّهموا ألسنتهم.
لكن لماذا كانت اللغة النجدية أمارةً على (الفحولة) عند الأصمعي وأقرانه من النَّقَدَة؟
لعلَّنا نجد الجواب عند أبي الحسن الجرجاني ؛ إذ يقول: «كانت العرب ومَنْ تبعها من السلَف تجري على عادةٍ في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تألفْ غيرَه،ولا أنِسها سواه، وكان الشعرُ أحدَ أقسام منطقها، ومن حقّه أن يُختص بفضل تهذيب،ويُفرَد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة، وانضاف إليها التعمّل والصنعة خرج كما تراه فخماً جزْلاً قوياً متيناً...فلما ضرب الإسلام بجِرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثُرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدّب والتظرّف؛ اختار الناسُ من الكلام ألينَه وأمهَله، وعمَدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنَها سمعاً، وألطفها من القلب موقِعاً، وإلى ما للعرب فيه لغاتٌ فاقتصروا على أسلسها وأشرفها...وتجاوزوا الحدّ فيطلب التسهيل حتى تسمّحوا ببعض اللّحن، وحتى خالطتهم الرّكاكة والعُجْمة، وأعانهم على ذلك لينُ الحضارة وسهولةُ طباع الأخلاق، فانتقلت العادة، وتغير الرّسم، وانتسخت هذه السنة، واحتذَوا بشعرهم هذا المثال، وترقّقوا ما أمكن، وكسَوا معانيَهم ألطفَ ماسنح من الألفاظ، فصارت إذا قيسَت بذلك الكلام الأول يتبيّن فيها اللين، فيُظَنّ ضعفاً،فإذ أُفرِد عاد ذلك اللّين صفاءً ورونقاً، وصار ما تخيلته ضعفاً رشاقة ولُطفاً؛ فإن رام أحدُهم الإغراب والاقتداءَ بمَن مضى من القدماء لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلّف، وأتم تصنع؛ ومع التكلف المقْت، وللنفس عن التَّصَنُّع نُفْرة، وفي مفارقة الطبع قلةُ الحلاوة وذهاب الرونق، وإخلاقُ الديباجة»([42]). فلا جرم بعد كل ذلك أن يُصِرَّ من أصرَّ من النُّقَّاد القُدامى -وفيهم الأصمعي- على بدوية لسان من يتشرف بلقب (الفحل).
أمَّا عن سِرِّ هجران المُوَلَّدين الألفاظ البدوية، واستعاضتهم عنها بالألفاظ الحضرية العذبة الرقيقة، حلوة المعاني، قريبةالمأخذ؛فيقول ابن وكيع التِّنِّيسي -أحد كِبار نُقَّاد القرن الرابع-:«لو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم، ووصف المَهَامِهِ والقِفار، وذِكر الوحوش والحشرات، ما رُوِيَت؛ لأن المتقدمين أَولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زُهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربَه، وإنما تُكتَب أشعارهم لِقُربها من الأفهام، وأنَّ الخواص في معرفتها كالعوام»([43]). فالباعث لأولئك المُحدَثين هو مجاراة أهل الزمان، فقد صار الجمهور لا يَطرَب لشعر المتقدمين لأنه لا يَفهمه، ومن جهل شيئا عاداه! ، ولا حيلة للمتأخرين إلا أن يأتوا بـ(ما يطلبه المُستمعون) حتى لو ضحوا بفحولتهم الشعرية.
4- غلبة صفة الشعر: الفحولة صفة عزيزة، تعني التفرد الذي يتطلب غلبة الشعر على كل صفات أخرى في الرجل؛قال أبو حاتم: «قلت: فحاتم الطائي؟ قال: حاتم إنما يُعَدُّ بكرم، ولم يقل إنه فحل» ([44]). فشهرة حاتم بالجود لا بالشعر، فلا يمكنه أن يتسنم ذروة الفحولة. وقال في أبي دؤاد الإيادي: «صالح، لم يقل إنه فحل» ([45])؛ لأنه -مع كون ألفاظه غير نجدية-، فإنه «كان وصافاً للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها، وله في غير وصفها تصرف بين مدح وفخر وغير ذلك، إلا أن شعره في وصف الفرس كَثُر» ([46])؛ بحُكم مهنته؛ فقد كان قائما على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر.
وزيد الخيل الطائي عند الأصمعي من الفرسان ([47])، أمَّا خُفاف بن ندبة وعنترة والزبرقان بن بدر وعباس بن مرداس السلمي فـ«هؤلاء أشعر الفرسان، لم يقل إنهم من الفحول» ([48])، لأنَّ ما قالوه من شعر لا يرقى بهم إلى درجتهم، لكنَّ «دُرَيد بن الصِّمَّة من فحول الفرسان،وهو في بعض شعره أشعر من الذبياني، وكاد يغلب الذبياني» ([49]). فمع كون دُريد مشهورا بالفروسية، إلا أن عنايته بالشعر جعلته يُناطح النابغة -رأس الفحول-، بل ويتفوق عليه في بعض شعره.
فعزل من عُزل من أولئك الشعراء الفرسان عن الفحولة «يعود إلى أنَّ أشعارهم لا ترقى بأصحابها إلى درجة الفحول، إذ ليس هناك ما يمنع من أن يكون الشاعر فحلاً في شعره، وفارساً في ميدان الحرب، ولكن غلبة الصفات الأخرى على صفة الشاعرية عند هؤلاء الشعراء، لم تكن على ما يبدو غلبة شهرة فقط، بل كانت غلبة اهتمام وعناية، فاقت اهتمامهم بالشعر، وعنايتهم به. ومن هنا فإنهم لم ينتجوا أشعاراً تضارع أشعار الفحول، أو تقرب منها حتى يستحق الواحد منهم مرتبة الفحولة، ولو أن أحدهم استطاع أن يوزع اهتمامه ما بين شعره وفروسيته أو كرمه أو ما إلى ذلك، لكان جديراً بالفحولة، مستحقاً لها، كما هو الحال للشاعر الفارس دريد بن الصمة»([50]).
أمَّا مَن عُرفوا بـ"الصعاليك"أمثال: سُلَيك بن السَّلَكة، وابن براقة الهمداني، وحاجز الثمالي، وتأبط شراً، والشنفرى الأزدي، والأعلم الهذلي ([51])؛ فهؤلاء قد كان فيهم شعراء، لكنهم ليسوا «من الفحول ولا من الفرسان، ولكنهم من الذين كانوا يغزون فيعدون على أرجلهم فيختلِسُون» ([52]). فهؤلاء كانوا لصوصًا، وليس كذلك فحولة الشعراء.
فمُنطَلَق الأصمعي في التمييز بين هذه الفئات -الفحول والفرسان والصعاليك- إيمانه الخفي بأنَّ من سِمات الفحولة عدم تطويع عملية الإبداع الشعري الأعلى للالتزام بأرضية خلقية أو فكرية أو حياتية محددة ؛ فالنموذج الشعري الأعلى في نظر الأصمعي هو الشاعر القبلي الذي يضطرب شعره في آفاق المعاناة الجماعية وتفاصيلها غير المحددة، فضلا عن خوضه تفاصيل التجارب التقليدية في افتتاح قصائده من بكاء الديار والنسيب والرحلة...إلخ. وتلك معالم لم تكن ممتدة إلى قصائد الفرسان والصعاليك، فذلك الذي ميزهم من الفحول. أمَّا قَبول الأصمعي تقويم بعض الفرسان ضمن (الفحول) كطفيل الغنوي مثلا ؛ فلعله رأى في شعره انشدادا إلى المعاناة القبلية يطغى على نزعة الفروسية التي اشتهر بها عند أصحاب الأخبار والسير، فكان أَن انطلق من نظرته إلى الشعر لا إلى الشاعر في ميدان التقويم ([53]).
5- الرصيد الشعري: فلا يكون الشعر صفةً غالبةً على المرء إلاَّ إذا توفَّر على رصيد شعري مُعتَبرٍ، والفحل من الشعراء هو الذي يُعنى بشعره، فيجمع فيه بين الوفرة والجودة ؛فالفحل: «هو من يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره»([54]). يقول ابن قتيبة: «لا أحسَب أحدًا من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريق التقليد، يستطيع أن يقدِّم أحدًا من المُتقدمين المكثِرين على أحد، إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره»([55]).
وفي هذا المقام ينقُل الأصمعي عن رُؤبة بن العجاج أنَّ: «الفحولة هم الرواة»([56]). يريد: «الذين يروون شعر غيرهم، فيكثر تصرفهم في الشعر، ويَقوون على القول»([57]). فالشاعر إذا روى استفحل، لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فيعلق بنفسه بعض أنفاسهم، ويقوى بقوة طباعهم،فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار،والتلمذة بمن فوقه من الشعراء، فيقولون:فلان شاعر راوية، يريدون أنه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، وإذا كان مطبوعاً لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم،وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه؛ لضعف آلته: كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الآلة([58]).
وظاهرة «المزج بين المعيارين الكمي والنوعي في التقويم لا تختص بالأصمعي، وإنما كانت تمتد إلى مواقف عامة علماء القرن الثاني بشكل يبدو أشد وضوحا عند ابن سلام الذي وافق في بعض تعابيره الأصمعي أو كاد»([59]) ؛ فهو يقول مثلا في حديثه عن الرابعة من طبقات الفحول الجاهليين: «وهم أربعة رهط فحول شعراء، موضعهم مع الأوائل، وإنما أخلَّ بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة»([60])، ويقول في الأسود بن يعفر: «وكان الأسود شاعراً فحلاً([61])، وكان يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد، وله فيذلك أشعار. وله واحدةٌ رائعة طويلة، لاحقة بأجود الشعر، لو كان شفعها بمثلها قدَّمناهعلى مرتبته»»([62]).
ولابد للفحل-عند الأصمعي- من قصائدَ جيدة طويلة، فلا تكفيه في ذلك النُّتَف اليسيرة، ولا الأبيات القليلة ؛ فهو يقول عن جرادة بن عُميلة العنزي - أحد المُقلّين -: «له أشعار تشبه أشعار الفحول، وهي قِصَارٌ»([63])، فكأن قِصَر أشعاره أقعده عن الفحولة.
فكثرة الشعر إذن أمارةُ اقتدار وطول نفسٍ لدى الشاعر، وأنه لا يُكدِي بمُجرَّد قول بضعة أبيات، بل يمضي في شعره متنقِّلاً من بيت إلى آخَر بوقود شاعري ذاتي التَّجدُّد، يغذوه ذخيرة إبداعية لا تنضَب، ليُعطي قصيدته إكسير الحياة، فيضمَن تخليدها على مر الأجيال، ويجعلها مفتوحةً للقراءة، للتأويل فيها مسرح ومجال؛ إذ «السطر الواحد من الشعر أو القطعة الواحدة تتهيَّأ لها فُرصة أوسع لأَن تكون عظيمة إذا هي جاءت في عمل شعري طويل، ومعنى هذا أن التعقيد يصعب تحقيقه في الحيز المحدود» ([64]).
والأصمعي لا يضع للفحل نصابا من القصائد يتوجب عليه بلوغه ؛ فهو يقول عن سلامة بن جندل: «لو كان زاد شيئاً كان فحلا»([65])، وعن أوس بن غلفاء الهجيمي: «لو كان قال عشرون قصيدة للحق بالفحول، ولكنه قُطع به»([66])، وعن معقر البارقي: «لو أتم خمساً أو ستاً لكان فحلاً»([67])، وكذلك هو الحال مع الحويدرة ([68]) وثعلبة بن صعير المازني ([69]). ويبدو أنَّ اختلاف عدد القصائد التي يحددها الأصمعي للشاعر حتى يكون فحلاً، يخضع لجودة شعر الشاعر عامة، أو لجودة القصيدة التي يرى أنها تمثل الأنموذج الأحسن عند الشاعر، ويطالبه بأن ينظم على غِرارهـا عدداً آخـر من القصائد ([70]).
وقد تقوم القصيدة الواحدة مَقام القصائد ذواتِ العدد، ما يُشعر بثقل المعيار النوعي عند الأصمعي وعند شيوخه أيضًا ([71])؛ فمهلهل بن ربيعة: «ليس بفحل، ولو كان قال مثل قوله: أليلتنا بذي حُسُم أنيري... كان أفحلَهم»([72])، وبشر بن أبي خازم: قصيدته التي على الراء ألحقَتْهُ بالفحول:
أَلا بـــانَ الخَـــلــيطُ وَلَم يُـــــدان
|
وَقَـلـبُـكَ في الظَعائِنِ مُستَـــعــارُ »([73])
|
فهذه القصيدة أطول قصائد بِشرٍ، وهي مؤلفة من خمسة وخمسين بيتا ؛ استهلَّها الشاعر بأبيات غزلية، ثم راح يُصوِّر فيها غاراته التي خاضها مع قومه على بعض القبائل. هذه القصيدة هي التي ألحقته بركب الفحول عند أبي عمرو بن العلاء فيما نقله عنه الأصمعي، أما ابن الأنباري، فقد نقل عن أبي عمرو بن العلاء إعجابَه بقصيدة أخرى لبشر مِيميَّةٍ ؛ مطلعها:
أَحَــقٌّ مــا رَأَيــتُ أَمِ اِحـــتِـــلامُ
|
أَمِ الأَهـــوالُ إِذ صَـــحـبـي نِيـــــامُ
|
وقال: «ليس للعرب قصيدة على هذا الروي أجود منها، وهي التي ألحقت بِشرًا بالفحول([74])، وهذه في قريبٍ من أربعين بيتا، تلي التي قبلها في الطول.
يبقى النظر في نقطة هامة ؛ وهي: أن القلة الشعرية قضية نسبية، فما بأيدي الرواة من شعر الشعراء ليس هو كل شعرهم، وهذا باعتراف أولئك الرواة، يشرح ذلك ابن سلام الجمحي ؛ فيقول: «وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون.... فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يَئِلوا إلى ديوان مُدوَّنٍ، ولا كتاب مكتوب، فألَّفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير. وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مُدِح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بني مروان أو صار منه»([75]).
ويستدل ابن سلام على ما ذكره بقوله: «ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقي منه بأيدي الرواة المُصحِّحين لطَرَفة وعَبيد، اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر. وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشُّهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما، فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلامٌ كثيرٌ، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعلَّ ذلك لذاك فلما قَلَّ كلامهما، حُمِل عليهما حملٌ كثيرٌ»([76]).
فإذا كان السَّاقِطُ من الشعر كثيرا، لم يعُد للمعيار الكمي ذاك الثِّقل، ولا شكَّ أن هذا الأمر لم يكن غائبا عن أذهان النُّقَّاد الأوائل، فقد قال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثيرٌ ([77]). ولعلَّه لذلك لم يستقِرَّ الأصمعي وأضرابه على نصاب مُعيَّن يشترط توفره في الرصيد الشعري للفحل، ربما لإيمانهم بأن ذلك سيُقصي كثيرا من الشعراء عن تلك المرتبة، لا لشيء إلا لأنَّ الشفهية التي كانت مُسيطرة على المنظومة الثقافية العربية، ضيَّعت كثيرًا مما قالوه.
وبالنسبة لمعيار الجودة ؛ فواضحٌ أنه لا محيد عنه في الحكم للشاعر بالفحولة، فكلما كثُر الجيد في قريضه، كلما ارتفعت منزلته، وحلَّق عاليا في سماء الريادة. قال الأصمعي: «أولهم كُلُّهم في الجودة امرؤ القيس، له الحظوَة والسبق، وكلُّهم أخذوا من قوله، واتَّبعوا مذهبه»([78]). ثم إنَّ الجودة قد تكون في رَوِيٍّ بعينه أو غَرضٍ بعينه ؛ فمرثية أعشى باهلة ليس في الدنيا مثلها([79])، كما أنَّ ميمية بشر بن أبي خازم أجود الميميَّات الجاهلية، وكافية زهير بن أبي سلمى أجود كافياتهم([80])، والشماخ لا يقوم له أحد في زائيته([81])، وكذلك أبو ذُؤَيب في جيميته([82]). ففي هذا الأحكام إشارة صريحة إلى أن القافية كانت شاخصا تعتمد عليه كِفَّتا الموازنة عند الأصمعي أحيانًا، وأن للشكل الفني أثره عند الأصمعي في الموازنة والحكم ([83]). ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى القدرة على التحكم في أداءات الروي الصوتية، والقدرة على استجلاء شعريته، ولاشك أن تلك المَلَكة من آكد خصائص الفحولة.
6- التوازن بين الطبع والصنعة: فلبيد بن ربيعة ليس فحلا في نظر الأصمعي؛ لأنَّ شعره «كأنه طيلسان طبري، يعني: أنه جيد الصنعة، وليست له حلاوة» ([84])، ومهلهل بن ربيعة: «ليس بفحل»؛ لأنَّه عَجَزَ أن يشفع رائيته التي مطلعها :
ألَـيـلَـتَـنَا بـذِي حُـسُـمٍ أَنِـيــــري
|
......................................
|
بأخرى،فأقعَدَته شاعرِيَّتُه عن درجة الفحولة، لتُلصِق به العرب لقَب (المهلهل)الذي يُفيد «الركون إلى أول بادر، دون عنايةٍ بالصنعة الفنيّة. مُستَهجِنِين هذا الاعتماد الصِّرف على الطَّبع. فأحد الأوجه الإشاريّة للقب المهلهل هو: سُخفُ النَّسج في شعره، وبالنتيجة رداءة شعره. قال ابن منظور: «ويُقال: هلهل فُلانٌ شعره، إذا لم يُنقِّحه وأرسله كما حضره؛ ولذلك سُمي الشاعر مُهَلْهِلاً»([85]). فهلهلة الشعر إذن قد تكون لعجز الشاعر أو لإهمال الصنعة والرضا بأول خاطر، والفحولة الشعرية تقتضي «ترك التكلّف، ورفض، التعمّل، والاسترسال للطبع، وتجنُّب الحمْل عليه والعنف به؛ ولستُ أعني بهذا كُلَّ طبْعٍ، بل المهذّب الذي قد صقله الأدب، وشحذَتْه الرّواية، وجلَّتْه الفِطنة، وأُلْهِمَ الفصل بين الرديء والجيد، وتصوّرَ أمثلة الحُسن والقُبح»([86]).
وإنما طولِب (الفحل) بالجمع بين الصنعة والطبع، لأن لكل منهما نكهته الخاصة؛ فـ«الكلامُ الجيد الطبع مقبول في السمع، قريبُ المِثَال، بعيد المَنَال، أنيق الديباجة،رقيق الزجاجة، يدنو من فَهْم سامعِه، كدنوّه من وهم صانعه. والمصنوع مثقف الكعوب،معتدلُ الأنبوب، يطَّرد ماءُ البديع على جَنَبَاته، ويجول رَوْنَق الحسن في صفحاته، كما يجول السّحْر في الطَّرْف الكحيل، والأثرُ في السيف الصقيل. وحمل الصانِع شعره على الإكراه في التعمل وتنقيح المباني دون إصلاح المعاني يُعْفي آثار صنعته، ويطفئ أنوار صيغته، ويخرجه إلى فسادِ التعسّف، وقُبْح التكلّف، وإلقاءُ المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسُه، وتنفثه وساوسه، من غير إعمال النظر، وتدقيق الفكر، يخرجه إلى حَدّ المشتهر الرثّ، وحيّز الغثّ. وأحْسَنُ ما أُجري إليه، وأعول عليه، التوسّط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين، من الطبع والصنعة»([87]).
وهذا المَسلك المُتوازن هو الذي سار عليه شعراء الجاهلية ؛ فـ«مِنْ شعراء العرب مَن كان يدع القصيدةَ تمكُثُ عنده حولاً كَريتاً، وزَمناً طويلاً، يُردِّد فيها نَظَرَه، ويُجِيل فيها عقله، ويقلِّب فيها رأيَه، اتّهاماً لعقله، وتتبُّعاً على نفسه،فيجعل عقلَه، زِماماً على رأيه، ورأيَه عِياراً على شعره؛ إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوّله اللَّه تعالى من نِعمته، وكانوا يسمُّون تلك القصائدَ: الحوليّاتِ، والمقلَّدات، والمنقَّحات،والمُحكَمات؛ ليصير قائلها فحلاً خِنذيداً، وشاعراً مُفْلقاً»([88]). وهذا سُويد بنُ كُراعٍ العُكليُّ يصف معاناته الشعرية، ويذكُر تنقيحَه شعره؛ فيقول([89]):
أبيتُ بأبــــــــــوابِ القوافي كأنَّما
|
أُصادِي بها سِرْباً من الـــوَحــشِ نُزَّعَا
| |
أكالئُها حتى أُعَرِّسَ بعدمــــــــــا
|
يكون سُحيراً أو بُعيداً فأهجَعــــــــا
| |
عَواصِيَ إلاّ من جعلتُ أمامَـهـــــا
|
عـصـا مِـرْبَدٍ تــغـشـى نحوراً وأذرُعا
| |
أهَبْتُ بغُرِّ الآبدات فــراجـعــــت
|
طـريـقـاً أمَلَّتْــهُ الــقـصائدُ مَهْـيـعَــا
| |
بـعـيـدةُ شـــأوٍ لا يــكـــاد يرُدُّها
|
لهــا طـالــبٌ حتى يَـكِــلَّ ويَـظْلَـعـا
| |
وجشَّمني خوفُ ابنِ عَفّان رَدَّهــــا
|
فـثـقَّـفْـتُــهـــا حَــولاً حَرِيداً ومَرْبَعا
| |
وقــد كــان فـي نـفسي عليها زيادةٌ
|
فـلـم أرَ إلَّا أنْ أُطـيـعَ وأسْــــمَــعَــا
|
وكون الأصمعي أدرج بعض أقطاب مدرسة من كان يسميهم هو (عبيد الشعر) ضمن الفحول، كطُفيل الغنوي، الذي سُمي محبّراً لتحسينه شعره([90])، وكذلك تلميذه زهير بن أبي سُلمى، وهؤلاء مِن «مَن جَوَّد في جميعِ شعره، ووقف عند كلِّ بيت قاله، وأعاد فيه النَّظَر حتى يُخرِجَ أبياتَ القصيدة كلّها مستويةً في الجودة، وكان يُقال: لولا أنَّ الشّعرَ قد كان استعبَدَهم واستفرغ مجهودَهم حتّى أدخلَهم في باب التكلُّف وأصحاب الصنعة، ومَن يلتمِسُ قَهْرَ الكلام، واغتصابَ الألفاظ، لذهبوا مذهبَ المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سَهْواً ورَهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً»([91]).
عُذر الأصمعي في ذلك أنَّ هؤلاء كانوا ممَّن: «تكسَّبَ بشعره والتمس به صِلات الأشراف والقادة، وجوائزَ الملوك والسادة، في قصائد السِّماطَين، وبالطِّوال التي تُنشَد يوم الحفْل»([92]). والدليل على ذلك أنَّ هؤلاء: «إذا قالوا في غير ذلك أخذوا عفوَ الكلام وتركوا المجهود، ولم نرهم مع ذلك يستعملونَ مثلَ تدبيرهم في طِوال القصائد في صنعة طِوَالِ الخُطَب، بل كان الكلام البائِت عندهم كالمقتضب، اقتداراً عليه، وثقةً بحسُنِ عادة الله عندهم فيه»([93]).
7- مِعمار القصيد: الفحول الجاهليون الذين مثلوا الأنموذج كانوا قد درجوا على طريق محدَّد، لا يخالفونه، ويتوجَّب على من رام الانخراط في سِلكهم أن يسلُكه ؛ يقول الأصمعي: «طريق الشعر هو طريق طريق الفحول، مثل امرئ القيس وزهير والنابغة؛ من: صفات الديار والرَّحل، والهجاء والمديح، والتشبيب بالنساء، وصفة الخمر والخيل والحروب، والافتخار ؛ فإذا أدخلته في باب الخير لان»([94]).
فالفحل الجاهلي كان يُعنى بهذه الأغراض الخمسة: الوصف، والغزل، والهجاء، والمديح، والفخر. فمتى ما جرى العُدول عَن سَنن هؤلاء الفحول، قدح ذلك في شعر الشاعر؛ يقول الأصمعي: «كانت الرواة لا تروي شعر أبي دُؤاد ولا عدي بن زيد، لمُخالفتها مذاهب الشعراء» ؛ فجعل علة هجران شعر هذين الرجلين مخالفتهما مسلك الشعراء قبلهما، ويقول أيضا: «ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلمَّا دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحمزة وجعفر عليهما السلام وغيرهم، لان شعره»([95]).
و(الشر) و(الخير) في منهج الأصمعي معادلان لمصطلحي (التحرر) و(الالتزام)؛فالتزام الشاعر بموقف أخلاقي أو فكري التزاما عنيفا، كفيلٌ بحجبه عن ارتياد الآفاق التي حدد الفحول معالمها خلال جهدهم الإبداعي غير المطوع لأي ضرب من ضروب الالتزام العنيف.
ومادام (التحرر) هو الطابع العام لشعر الفحول من الجاهليين، فإن على النقد أن ينظر بحذر إلى الملتزمين كعروة بن الورد الذي يقول عنه الأصمعي: «شاعر كريم، وليس بفحل»([96])، وكذلك حاتم الطائي الذي هو عنده: «إنما يعد بكرم،ولم يقل إنه فحل»([97])، أو الذين تحدَّدت آفاق نتاجهم بوجه مُقَيَّدٍ كلَبيد، الذي يقول فيه: «كان رجلا صالحاً»([98])، ويُعلِّق تلميذه أبو حاتم بقوله: «كأنه ينفي عنه جودة الشعر»([99])، ليُقرِّر بذلك أن الأصمعي كان يرى في التوجه الخلقي الإيجابي إبعادا للشاعر عن مرتبة الفحول، مع غض النظر عن طبيعة التوجه وتفاصيله([100]).
ولا تعارُض بين ما تقرَّر هنا، وما قاله الأصمعي في مزرد بن ضرار: «ليس بدون الشماخ -وهو أخٌ له، قد حكم بفحولته-، ولكنَّه أفسدَ شعرَه بما يهجو الناس»([101]). وقوله في الحطيئة: «أفسد مثل هذا الشعر الحسن –لشعرٍ أنشده له- بهجاء الناس وكثرة الطمع»([102]). فهذان النَّقلان يُشيران إلى عامل مشترك أسقط فحولة هذين الشاعرين هو: الهجاء المُفرِط، والبُخل؛ فالهجاء من مُقوِّمات الفحولة -كما تقدَّم-، ولكنَّه كالملح ينبغي أن يُستعمل بقدرٍ، أما أن يخرج عن الحد بأن يُهجا كل الناس، بل أن يهجو المرء نفسه إذا لم يجد مَن يهجوه كحال الحطيئة ([103])، أو يكون شريراً يهجو ضيوفه، بل ويهجو قومه، كحال مزرد،فإنَّ هذا الهجاء يذهب بلذة الشعر وثمرته، فيغدو وسيلة للابتزاز، وتحصيل الأموال وقطع الطريق أمام الضيفان، كما هو منقولٌ في سيرة هذين الرجلين؛ وكلُّ ذلك مُبايِنٌ لسُنن العرب، التي جاء الشعر ليخدُمَها لا لتَخدُمَه.
يقول ابن رشيق في هذا المقام: «مِن حكم الشاعر أن يكون حلو الشمائل، حسن الأخلاق، طلق الوجه، بعيد الغور،مأمون الجانب، سهل الناحية، وطيء الأكناف، فإن ذلك مما يحببه إلى الناس، ويزينه فيعيونهم، ويقربه من قلوبهم، وليكن مع ذلك شريف النفس، لطيف الحس، عزوف الهمة،نظيف البزة، أنفاً؛ لتهابه العامة، ويدخل في جملة الخاصة، فلا تمجه أبصارهم، سمح اليدين،وإلا فهو كما قال أحمد بن أبي فنن:
وإن أحــق الـنــاس بـالـلوم شاعر
|
يـلـوم عـلى البخل الرجال ويبخل»([104])
|
القيمة النقدية لمعيار الفحولة:
لابد للعملية النقدية أن تمر بمراحل معينة، لتؤتي ثمارها ؛ إذ «النقد في حقيقته تعبيرٌ عن موقف كُلي مُتكاملٍ في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة؛ يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبُر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، خُطواتٌ لا تُغني إحداها عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق؛ كي يتخذ الموقف نهجا واضحا، مُؤصَّلاً على قواعد - جزئية أو عامة -، مُؤيَّدًا بقوة الملكة بعد قوة التمييز»([105]). وهذه الخطوات قد وجدت طريقها إلى التطبيق في عصر الأصمعي بعد أن انتقل جزء من تراث الأمة من الشفوية إلى الكتابية، فاجتاز النقد قنطرة التذوق والتأثر ليصل إلى ساحة الفحص والتأمُّل.
ومع أن التَّدوين يهيء الأرضية للنقد الموضوعي، إلاَّ أنه «لا يستطيع أن يخلق وحده نقدا منظما، بل لابُدَّ من عوامل أخرى،أهمُّها: الإحساس بالتغيُّر والتطوُّر؛ في الذوق العام،أو في طبيعة الفن الشعري، أو في المقاييس الأخلاقية التي يَستَنِد إليها الشعر، أو في العادات والتقاليد التي يُصوِّرُها، أو في المستوى الثقافي ونوع الثقافة في فترة إثر أخرى، أو في مجموعةٍ من القِيم على وجه التَّعميم. ذلك لأن هذا الإحساس بالتغير والتطور هو الذي يَلفِت الذِّهن - أو ملكة النقد - إلى حدوث " مفارقة " ما، ولابد لهذه المُفارقة أول الأمر من أن تكون ساطعة متباعدة الطرفين، حتى تُمكِّن النظر الذي لم يَألفها قَبلاً من رؤيتها بوُضوحٍ»([106]).
غير أنَّ «سُموق النَّماذج الشعرية الجاهلية، ثم حركة الأحياء لتلك النماذج في العصر الأموي، وبعض العصر العباسي، واتخاذها قِبلةً للجميل أو الرائع من الشعر سَببًا في حَجب كُلِّ حقيقةٍ تطوُّرِّية عن العُيون. لهذا لم يبدأ الإحساس بالتغير والتطور إلا حين أخذت بعض الأذواق تتحوَّل عن تلك النماذج إلى نماذج جديدة، وحين أخذت المقاييس الأخلاقية والقيم العامة والتقاليد المتبعة تنحني أمام تيارات جديدة أو تصطدم بها، وحين تعددت المنابع الثقافية وتباينت مستوياتها»([107]).
لقد ظهر كل ذلك في عصر الأصمعي، لكنَّ التصاقَه بالرواية واللغة ذلك الالتصاق الشديد لم يسمح له أن يراها بوُضوحٍ أو أن يتمثلها؛ فمع كونه بداية النَّقد المنظم، لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية([108])، إلاَّ أنه ظلَّ وجيله من النُّقَّاد مُتشبِّثين بالمقاييس القديمة في تقويم الشعراء، ومنها مقياس (الفحولة)؛ والذي يرى (إحسان عباس)اعتماده مقياسًا واحدًا«للتَّمييز بين مختلف ألوان الشعر يُعَدُّ خطرا على النقد وعلى التذوق معا، ولابد من أن يضيق به الدارسون ذرعا، حتى هؤلاء الرواة أنفسهم لن يحسنوا الصبر على لون واحد فيما يرونه؛ إذ ما أسرع ما يحدث تضييق المقاييس تقلُّبًا في الذوق بين الحين والحين، فكيف إذا كان المعتمد مقياسا واحدا؟ !»([109]).
والحقيقة أن (الفحولة) لم تكن المعيار الوحيد للحكم على الشعراء، وإنما كانت معيارا للحكم على النُّخبة منهم، والنَّاظر فيما أصدره الأصمعي من أحكام على الشعراء، يرى أنَّه حكم بشاعريَّة العشرات ممَّن لم يرتضهم فحولاً ؛ فعروة بن الورد عنده: «شاعر كريم، وليس بفحل»([110])، و«الراعي أشبه شعراً بالقديم وبالأول»([111])،وخُفاف بن ندبة وعنترة والزبرقان بن بدر وعباس بن مرداس السلمى«هؤلاء أشعر الفرسان، لم يقل إنهم من الفحول»([112]).
وإذا أردنا أن ننصف الأصمعي وجماعته من النقاد ؛ فينبغي أن نقول: أنهم استشعروا أهمية الشعر، بوصفه ديوان العرب، وخزانة علومهم ومعارفهم، وكانوا على وعي تام بدورهم الحاسم في ماضي الأمة العربية ومستقبلها، لقد كان الأصمعي وهو الذي طاف الفيافي والقفار، يجمع شتات الغريب من كلام العُريب ؛ يرى بثاقب بصيرته مدى فداحة أن يتسلَّق هَرم الفحولة الشعرية من لم تتوفر فيه شرائطها، ومع أنَّ هذا الموقف لا يخلو من التشدُّد الذي له مُسوِّغاته، إلا أنه أثمر ثمارا طيبة في الساحة النقدية والشعرية معًا، وكان وقودا لحِراك إيجابي.
* ولعلَّ من أبرز الآثار النقدية لتوظيف مصطلح (الفحولة)في الحقل الشعري ثلاثة أمور: تبلور فكرة طبقات الفحول، إعادة صياغة الخريطة الشعرية، ورفع مستوى الشعرية.
1- طبقات الفحول: فكرة الطبقات عرفتها العرب في جاهليتها ([113])، وتداولها النقاد في كلامهم على الشعراء، والفحول أنفسهم عند الأصمعي ليسوا على درجة واحدة، وهذا شيء بدهي ؛ فَلَإن كان جَمَعهم وصف الفحولة، فثمة أمورٌ باينت بين حظوظهم من هذه الصفة.
ولذلك يجد المتتبع لصنيع الأصمعي أنه تارة يجزم بفحولة الشاعر فيقول مثلا في علقمة بن عبدة والحارث بن حِلِّزة والمسيب بن علس: «فحل»([114])، وتارة يتشكَّك في الشاعر، فيقول: «أظنه من الفحول، ولا أستيقنه»([115]). قالها في كعب بن جعيل. وتارة يُعبِّر بما يُنبئُ عن اجتهاد شخصي، فيقول: «أرى أنه من الفحول»([116]). قالها في مالك بن خريم الهمداني، وفي الأسود بن يعفر النَّهشلي: «يُشبه الفحول»([117])، وفي جرادة بن عُميلة العنزي: «له أشعار تشبه أشعار الفحول»([118]). وثمة مَن هو فحل في قصيدة بعينها؛ ككعب بن سعد الغنوي، الذي يقول فيه الأصمعي: «ليس من الفحول إلا في المرثية، فإنه ليس في الدنيا مثلها»([119]).
فالفحولة درجة تطبعها النسبية إلى حدٍّ كبير ؛ يوضح ذلك هذا النص، يقول أبو حاتم السجستاني: «سمعت الأصمعي عبد الملك بن قريب غير مرةٍ يُفضِّل النابغة الذبياني على سائر شعراء الجاهلية، وسألتُه آخر ما سألته قُبَيل موته: مَن أوَّل الفحول؟ قال: النابغة الذبياني، ثم قال: ما أرى في الدنيا لأحد مثل قول امرئ القيس:
وَقــــاهُـــم جِـــدُّهُـم بِبَني أَبيهِم
|
وَبِــالأَشــقـيــنَ مــا كــانَ العـقابُ
|
قال أبو حاتم: فلما رآني أكتب كلامه فكَّر، ثم قال: بل أولهم كلهم في الجودة امرؤ القيس، له الحظوَة والسبق، وكلُّهم أخذوا من قوله، واتَّبعوا مذهبه، وكأنه جعل النابغة الذبياني من الفحول»([120]). واضحٌ أن وصف الشاعر بالفحولة وترتيب الفحول ووضعهم ضمن طبقات أمرٌ يحكُمه الاجتهاد، وواضحٌ أيضًا أنَّ النُّضج والتجربة كفيلان بتغيير هذا الاجتهاد. فالنابغة قد زُحزح عن رئاسة الفحول في لحظة تأملية، ليَحُلَّ محلَّه امرؤ القيس، بل قد قال الأصمعي: «ودُرَيد في بعض شعره أشعر من الذبياني، وكاد يغلب الذبياني»([121]).
والخلاصة: أن فكرة طبقات فحول الشعراء كانت ماثلة في تفكير الأصمعي وأحكامه، إلا أنها تجلَّت بصورة أوسع وأوضح عند محمد بن سلاَّم الجُمحي، والذي جاء جهده تتميما للنقص في ترتيب الفحول ضمن طبقات ([122]).
2- إعادة صياغة الخارطة الشعرية: وذلك من خلال زحزحة بعض أصحاب المعلقات عن رتبة الريادة الشعرية، وفي ذلك خرق للعُرف السَّائد بين الناس؛ فقد أخَّر الأصمعي عن مكانة (الفحولة) عددا من مشاهير الشعراء، فيهم بعض أصحاب المعلقات: كالأعشى، وعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد،والشنفرى؛ فهؤلاء كلهم أقصاهم عن تلك الرتبة، مُخالفا بذلك العديد من النقاد الجاهليين والإسلاميين، وملتزما بذلك الخط الذي اختطه لنفسه من وجوب توفر الشاعر على شروط معينة حتى يحظى بالفحولة، بغض النظر عما شاع عند الناس من أمره.
3- رفع مستوى الشعرية: فالشاعر الذي يطمح للوصول إلى درجة الفحول، لابد أن يأخذ نفسه بما أخذ به الفحول أنفسهم، وفي ذلك ارتقاء بصنعة الشعر، وإحكام للشاعرية ؛ فهذا ذو الرُّمة كان يوماً ينشد في سوق الإبل شِعرَه الذي يقول فيه:
...................................
|
.......................عَذَّبَتْهُنَّ صَيْدَحُ
|
و(صيدح) ناقته ؛«فجاء الفرزدق، فوقف عليه ؛ فقال له: كيف ترى ما تسمع، يا أبا فراسٍ؟ قال:ما أحسن ما تقول! فقال: فما بالي لا أُذكر مع الفحول؟ قال: قَصَّر بك عن غاياتهم بكاؤك في الدِّمن وصفتك للأبعار والعطن! !»([123]).
كما أن الفحل ينبغي عليه أن يُحافظ على تَألُّقه، فيتعاهد شعره حتى لا يسقُط؛ يقول الأصمعي: «الشعر نَكِدٌ بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسان بن ثابتٍ فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره، وقال مرة أخرى: شعر حسَّان في الجاهلية من أجود الشعر، فقطع متنه في الإسلام، لحال النبي ×»([124]). أي: أنَّ حسَّانا الخزرجي رضي الله عنه أقلع عمّا كان يرتاده في جاهليته من تشبيب وذكر للنساء من أمثال شعثاء وعميرة وغيرهن، وفخر بقومه وذكر مآثرهم ومناقبهم، وهجاء مر للأوس بسبب الحروب التي كانت بينهم. وتلك هي الأودية التي ترفد نهر الفحولة، فإذا غاضت، جف ماؤه.
خاتمة
بعد هذه الجولة في رحاب مصطلح الفحولة، نخلص إلى مجموعة من النتائج نجملها فيما يلي:
1- لقد وعى النقاد القدماء الأوائل، وفي مقدمتهم الأصمعي، ضرورة وجود معايير فنية، ومقاييس تمكنهم من نقد الأشعار، والحكم عليها جودة أو رداءة، وتصنيف الشعراء، ووضعهم في المراتب التي يستحقونها، وتجسد ذلك من خلال ما أوجدوه من مصطلحات، وكان مصطلح الفحولة واحداً من تلك المصطلحات التي نقع عليها في تراثنا النقدي.
2- كان للبيئة البدوية المحيطة بالقوم آنذاك، والمناخ الاجتماعي السائد، أثرهما الواضح في المصطلحات النقدية، وهذا يدل على عمق التفاعل والتأثر بين الناقد والبيئة التي تحيط به، سواء أكانت طبيعية أم اجتماعية.
3- لفظ (الفحولة) في العربية؛ يأتي جمعا لكلمة (فحل)، ووَصفًا لكل ذكر قوي غالب متميز على غيره، كريم مُنجِبٍ عظيم نبيل. والمعنى الأول هو الشائع عند النقاد الأوائل، بينما شاع عند المتأخرين المعنى الثاني.
4- تقوم الدلالة الاصطلاحية للفحولة على ركنين: 1- الفضل والشرف 2- القهر والغلبة.
5- أقام الأصمعي مصطلح الفحولة على سبعة معايير ؛ هي:1- الذكورة 2- إدراك الجاهلية3- بدوية اللغة4- غلبة صفة الشعر 5- الرصيد الشعري 6- التوازن بين الطبع والصنعة 7- معمار القصيد.
6- من أبرز الآثار النقدية لتوظيف مصطلح (الفحولة) في الحقل الشعري: 1- طبقات الفحول 2- إعادة صياغة الخارطة الشعرية 3- رفع مستوى الشعرية.
مراجع البحث
1. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، لبنان، ط.4، 1983.
2. الأصفهاني، علي بن الحسين، كتاب الأغاني، تح: إحسان عباس وزميلاه، دار صادر، لبنان، ط.3، 2008.
3. الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء، تح: ش. توري، قدم لها: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، لبنان، ط.1، 1980.
4. ابن الأنباري، القاسم بن محمد، شرح المفضليات، تح: كارلوس يعقوب لايل، مطبعة الآباء اليسوعيين، لبنان، 1920.
5. البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح المختصر، تح: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة – لبنان، ط.3، 1987.
6. الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، مصر، ط.7، 1998.
7. الجرجاني، علي بن عبد العزيز، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، لبنان، ط.1، 2006.
8. الجمحي، محمد بن سلام، طبقات الشعراء، دار الكتب العلمية، لبنان، د.ط، 2001.
9. الحُصري، إبراهيم بن علي، زهر الآداب وثمر الألباب، تح: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، لبنان، ط.1، 2001.
10. حمود حسين يونس، في إرهاصات المصطلح النقدي القديم /الفحولة نموذجاً"، مجلة التراث العربي، ع.101، س26، اتحاد الكتاب العرب، سورية، 2006.
11. السيوطي، نزهة الجلساء في أشعار النساء، تح: عبد اللطيف عاشور، مكتبة القرآن الكريم، مصر.
12. أبو عبيدة، معمر بن المثني، الديباج، تح: عبد الله بن سليمان الجربوع وعبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، مصر، ط.1، 1991.
13. عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي/عرض وتفسير ومقارنة، دار الفكر العربي، مصر، د. ط، 1992.
14. عبد اللطيف أرناؤوط، سِمات للأدب النسائي في "بَلاغات النسَاء" لأحمد بن طيفور، مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، سورية، ع.50، س. 13. 1993.
15. ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، مصر، 1979.
16. ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم:
17. الأنواء في مواسم العرب، دار الشؤؤون الثقافية العامة، العراق، 1988.
18. الشعر والشعراء، تح: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، ط.1، د.ت.
19. القيرواني، الحسن بن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، مطبعة السعادة، مصر. ط.1، 1907.
20. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، لبنان، ط.1.
21. المبرد، محمد بن يزيد، الكامل، تح: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، سورية، ط.3، 1997.
22. المرزباني، محمد بن عمران، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، تح: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، لبنان، ط.1، 1995.
23. محمود عبد الله الجومرد، جهد الأصمعي النقدي في كتابه فحولة الشعراء، مجلة المجمع العلمي العراقي، العراق 1983. ج4م34.
الإحالات :
([3]) هو: نجم عملاقٌ جبار، أبيض اللون، من القدر الأول، ألمع نجوم مجموعة النجوم المكونة لكوكبة القاعدة، يلي الشِّعرى اليمانية في الإضاءة، يمكن رؤيته بالعين المجردة ليلا. كان العرب يهتدون به في الصحراء وهم يتوجهون صوب الجنوب. وظهور نجم "سهيل" يمثل علامة في تحول الظروف الجوية، حيث كانت العرب تقول: "إذا طلع سهيل؛ برد الليل، وخيف السيل، وكان للحوار الويل" لأنه يفصل عن أمه. وقد نسجت حول هذا النجم العديد من الأساطير، ونال حظا وافرا من ديوان العرب الشعري.
انظر: ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، الأنواء في مواسم العرب، دار الشؤؤون الثقافية العامة، العراق، 1988.
([20]) ظل الأصمعي يميز تمييزا منهجيا واعيا بين خمس فصائل من الشعراء: الفحول، والفرسان، والصعاليك، والرُّجَّاز، المولدون والموالي. وقد استأثر الجاهليون بالطبقات الثلاثة الأُولى، والإسلاميون بالرابعة، بينا اشترك الإسلاميون والمخضرمون في الخامسة.
انظر: محمود عبد الله الجومرد، جهد الأصمعي النقدي. ص220.
([33]) هؤلاء الذين قال عنهم تلميذه الأصمعي: «لو كانوا في الجاهلية كان لهم شأن، ولا أقول فيهم شيئاً لأنهم إسلاميون».
انظر: الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء. ص12.
([39]) نقله أبو الحسن الجرجاني ؛ واعترضه بقوله: «وكيف يكون ذلك؟ ! وهذا معاويةُ يفضّل عدياً على جماعة الشعراء. وهذا الحطيئة يُسأل: مَن أشعر الناس؟، فيقول: الذي يقول، وأنشد لأبي دؤاد:
لا أعُــــــــــدُّ الإقْتــــــار عُدْما ولكنْ
|
فقْدُ من قـــــــد رُزئتُــــــــــــــه الإعدامُ
| |
مـــن رجــــال من الأقارب مـــــــاتوا
|
من حُذاق هـــم الــــرّؤوس الكِــــــــرامُ
| |
فيهمُ للمُـــــــلاينين أنـــــــــــــــــاةٌ
|
وعُرام إذا يُـــــــــــــــــــــراد عــــرام»
|
انظر: الجرجاني، علي بن عبد العزيز، الوساطة بين المتنبي وخصومه. ص53.
إنّـي أَتَـتـنــــي لِــســــانٌ لاَ أُسَــرُّ بـهـا
|
مــن عُــلــوَ لا كــذب فِــيـهَـــا ولا سَخَرُ
|
انظر: الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء. ص15.
بانَ الخَليطُ وَلَم يَأوُوا لِمَن تَــــــــــــرَكـوا
|
وَزَوَّدوكَ اِشــتِــيــاقــاً أَيَّــةً سَـلَـــكـــــوا
|
قال الأعلم: زعم الأصمعي أن ليس للعرب كافية أجود من هذه، ومن كافية أوس بن حجر .
عَــفــا بَــطــنُ قَــوٍّ مِـــن سُلَيمى فَعالِزُ
|
فَــذاتُ الــغَــضــا فَــالمُشرِفــاتُ الــنَواشِزُ
|
انظر: الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء. ص20.
صَبــا صَــبــوَةً بَــل لَــجَّ وَهُــوَ لَجــوجُ
|
وَزالَـت لَـهـا بِــالأَنـعَـمَـيــنِ حُـــــــدوجُ
|
انظر: الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء. ص20.
([103]) قال أبو عبيدة: كان الحطيئة بذياً هجاءٌ، فالتمس ذات يوم إنساناً يهجوه فلم يجده، وضاق عليه ذلك، فأنشأ يقول:
أبـت شـفـتـــاي الـيـــوم إلا تـكـلــــماً
|
بــشَــر فـمــا أدري لـمــن أنــا قـائــلــــه
|
وجعل يُدَهور هذا البيت في أشداقه ولا يرى إنساناً، إذ اطلع في ركي أو حوض، فرأى وجهه فقال:
أرى لــي وجــهــا شـــوه الله خــلــقـه
|
فــقــبّـــح مــن وجـــهٍ وقــبــح حــامـله
|
انظر: الأصفهاني، علي بن الحسين، كتاب الأغاني. ج2ص106.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق